خمسة وثلاثون عاما مرت على رحيله، ومازل صوته يتمتع بحضور طاغ، وشهرة واسعة في أرجاء العالم الإسلامي، بعد أن ارتبط اسمه في أذهان المستمعين بالمصحف المرتل، كما لم يرتبط به اسم قارئ آخر، ولا عجب، فالشيخ محمود خليل الحصري هو صاحب أول جمع صوتي للقرآن الكريم في تاريخ الإسلام، تطوع لتسجيل القرآن الكريم كاملًا مرتلًا عام 1961، دون أن يأخذ أجرًا على تلاوته، وعندما أنشأت إذاعة القرآن الكريم عام 1964 ظلت نحو عشر سنوات تقتصر على إذاعة مصحفه المرتل، حتى سماها الناس "إذاعة الحصري".
كان صاحب الترتيب الأول للمتقدمين لامتحان الإذاعة عام 1944، وعبر الأثير صافح صوته آذان المستمعين في أنحاء العالم الإسلامي، فاختارته الحكومة السعودية لافتتاح الحفل الرسمي لإضاءة مكة المكرمة بالكهرباء عام 1954، كما صحب الرئيس جمال عبد الناصر في زيارته للهند وباكستان عام 1960.
وفي زيارته لفرنسا عام 1965 أسلم عشرة أشخاص بعد سماعهم القرآن بصوته، أما عام 1973، فزار أمريكا للمرة الثانية، وخلالها أسلم 18 رجلًا وامرأة بعد أن اهتزت قلوبهم لكلمات الله بصوت الحصري، وبلغ حب المسلمين في العالم له درجة كبيرة، حتى أن الجماهير في ماليزيا حملت سيارته على الأكتاف، احتفاء به وتقديرًا لأدائه.
وللشيخ الحصري عدد من "الأوليات"، فإضافة إلى المصحف المرتل، كان الشيخ أول من قرأ القرآن في الكونجرس الأمريكي، عام 1977، وكان أول من رفع الأذان في مبنى الأمم المتحدة بناء على طلب وفود جميع الدول العربية والإسلامية، وهو أول قارئ يستقبله الرئيس الأمريكي كارتر، بل ويطلب منه تسجيل القرآن كاملًا في الولايات المتحدة، كما أنه انتخب كأول رئيس لاتحاد قراء العالم الإسلامي، في مؤتمر كراتشي بباكستان عام عام 1966.
استقبل الشيخ الحصري الدنيا عام 1917، لأب كان يكدح بصناعة الحصير، فلقب "الحصري" جاء نسبة إلى مهنة والده، وحفظ القرآن ولم يجاوز سنه العاشرة، وتتلمذ على عدد من كبار المشايخ وعلماء القراءات، حيث نال إجازة مسندة للقراءات العشر من الشيخ إبراهيم بن أحمد سلام المالكي، كما تتلمذ على يد العلمين الكبيرين علي محمد الضياع، وعامر محمد عثمان، وحصل كذلك على إجازة من الشيخ عبد الفتاح القاضي.
امتدت رحلة الحصري مع القرآن منذ طفولته حتى رحيله في 24 نوفمبر عام 1980، وبين الميلاد والرحيل ملأ الحصري حياة المسلمين بالتجويد والترتيل، وزار جميع الدول العربية والإسلامية، وأوروبا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، واستقبله كثير من زعماء العالم.
وتولى الحصري عددًا من المواقع التي خدم القرآن من خلالها، فقد عيّن عام 1960 شيخا لعموم المقارئ المصرية، كما عين عام 1962 نائبًا لرئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر، ثم تولى رئاستها خلفًا للعالم الجليل الشيخ عبدالفتاح القاضي، كما عين مستشارًا فنيا لشئون القرآن بوزارة الأوقاف، وخبيرًا للقرآن بمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.
أما مسيرته مع التلاوة في المساجد الكبرى فبدأت عام 1949 حين عين الشيخ قارئًا للمسجد الأحمدي بطنطا، وظل به حتى اختير عام 1955 قارئًا لمسجد الإمام الحسين، خلفًا للشيخ محمد الصيفي، قبل أن تنهال عليه الدعوات من الدول العربية والإسلامية، وفي بعض الأحيان كان بطلب شخصي من الملوك والرؤساء، لاسيما في شهر رمضان.
تميزت تلاوة الشيخ الحصري بنمط صارم من الوقار والرزانة، والحرص الشديد على أحكام التلاوة ومخارج الحروف، فأصبح الشيخ مدرسة كاملة المعالم والأركان في دولة التلاوة المصرية، وانتشر صوته في أرجاء الأرض، عبر تسجيله للقرآن الكريم مجودًا ومرتلًا برواية حفص عن عاصم، ثم تسجيلاته للمصحف المرتل بروايات ورش وقالون عن نافع، والدوري عن أبي عمرو.
لا يتمتع الحصري بمساحة صوتية واسعة، كما أن تلاوته تفتقد للثراء النغمي مقارنة بغيره من كبار القراء، لكن الرجل كان يعيش مع كلمات القرآن، ويحلق بها في حدود قدرته الصوتية، مع مراعاة شديدة لأحكام التجويد، وجاءت ختمته للمصحف المرتل الخاص بالإذاعة المصرية في غاية التوفيق، وتركت أثرًا كبيرًا في وجدان المستمعين.
يغلب مقام النهاوند على تلاوة الحصري، وقد قرأ به كثيرًا في المصحف المرتل، الذي سجل برعاية الحكومة المصرية، التي وزعت أسطوانات هذه الختمة على المراكز الإسلامية ووزارات الشئون الدينية في العالم الإسلامي.
ويروي الدكتور محمد الحصري نجل القارئ الراحل، أن الحكومة عرضت على كثير من القراء تسجيل المصحف المرتل نظير عشرة آلاف جنيه سنويًّا، فرفضوا جميعًا، بينما قبل الحصري أن يسجل القرآن كاملًا دون أجر، وبعد النجاح المدوي لترتيل الشيخ، قرر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية طباعة المصحف المرتل على أسطوانات، وطرحه في الأسواق، على أن ينال الحصري عشرة قروش عن كل أسطوانة، ثم اكتشف المسئولون بعد عام أن الشيخ حصل من هذه النسبة أكثر من ستة آلاف جنيه، فقرروا منحه اثني عشر ألف جنيه مقابل التنازل عن كل حقوقه.
ولعل الشيخ الحصري هو المقرئ المصري الوحيد الذي أَمَّ المصلين في الحرم المكي، بعد أن قدمه أئمة الحرم على أنفسهم، فقرأ سورة الكهف، وأبكى المصلين من خلفه، كما قرأ الشيخ على مسمع ملايين الحجيج يوم عرفة، ومن حسن الحظ أن تلاوته هذه مسجلة صوتًا وصورة، وقررت الحكومة السعودية السماح له بالقراءة في الحرمين كلما زار الديار المقدسة.
يعتبر كثير من المحفظين أن الاستماع إلى تلاوة الحصري خير وسيلة لإتقان أحكام تجويد القرآن، ومخارج الحروف وصفاتها، وقد سجل الشيخ ختمة كاملة سميت بـ"المصحف المعلم"، قرأ فيها الحصري آيات القرآن دون أي نغم، لتكون تلاوته دروسًا للمهتمين بعلم التجويد.
في مسقط رأسه بقرية شبرا النملة بمحافظة الغربية، بنى الشيخ الحصري مسجدًا ومعهدًا دينيًّا، وأوصى بثلث ثروته للفقراء من القراء والمحفظين، وجعل وزارة الأوقاف قيمة على تنفيذ الوصية، وفي الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1980 أسلم الحصري الروح، بعد أن ترك تراثًا لا يقدر وذكرى لا تنمحي.
No comments:
Post a Comment