يقول ابن منظور في معجم لسان العرب: "ويُقال: المِلك عقيم لا ينفع فيه نسب لأن الأب يقتل ابنه على المِلك. وقال ثعلب: معناه أنه يقتل أباه وأخاه وعمه في ذلك. والعقم: القطع، ومنه قيل: المِلك عقيم لأنه تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق".
يُنسب للخليفة العباسي هارون الرشيد قوله لابنه المأمون: "يا بني المِلك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك"، أي لقطعت رأسك. في التاريخ العربي الإسلامي حوادث تؤكد أن هذا القول لم يكن مجرد صيغة مبالغة بل أمراً واقعاً، فكتب التاريخ تحمل لنا بعض الوقائع التي تمثل تطبيقاً عملياً له.
الخيزران: "شهرزاد" التي قتلت ابنها الخليفة
قصتها نموذج للمرأة المتسلطة التي صعدت من القاع إلى القمة. المروي عنها أنها كانت فتاة من اليمن اختُطفت في حداثة سنها وتلقفتها أيدي تجار النخاسة لتجد نفسها جارية في قصر الخليفة العباسي الثالث المهدي الذي هواها حتى تمكنت منه، خاصة بعد أن أنجبت له ابنين هما موسى وهارون. وقيل إنها كانت مصدر إلهام لصياغة شخصية شهرزاد المتحكمة بشهريار.
حملت اسم الخيزران، وهو نبات مستوي القامة ممشوقها، لاعتدال وامتشاق قوامها. وغرست حبها في قلب زوجها الخليفة المهدي حتى أقنعته بأن يجعل ولديها موسى الهادي وهارون الرشيد وليين لعهده. واشتركت مع زوجها في الحكم وإن كان ذلك من خلف الستار.
وعندما توفي المهدي وتولى موسى الهادي الحكم، صار أصحاب الحوائج يطرقون بابها وهي تبلّغ الخليفة برغباتهم حتى أصابه الضجر من ذلك وبدأ يحس بالغيرة على مكانته فكان أن رفض أحد طلباتها، فقالت له مهددة: "إذن لا أطلب منك شيئاً أبداً" فردّ: "إذن والله لا أبالي". وأبلغ رجاله سخطه على ما يجري من وقوف الناس بباب أمه وأقسم بنسبه للرسول بأنه سيقتل مَن يفعل ذلك. ثم استدعى أمه وقال لها: "أما لك من مشغل يشغلك أو بيت يصونك أو مصحف يذكرك؟" وعنّفها مبلغاً إياها قراره السالف الذكر فانصرفت من عنده وهي لا تعي ما تقول من فرط غضبها.
ويذكر الطبري في كتابه "تاريخ الأمم والملوك" أن الهادي أرسل لأمه طعاماً فكادت أن تأكل منه لولا أن نبهتها جاريتها، فجاءت بكلب وأطعمته منه فمات فوراً، فأرسل لها ابنها يسألها إن كان قد أعجبها الطعام فأجابت بأنه قد أعجبها فكان رده هو "بل لم تأكلي منه ولو أكلتيه لاسترحت منك! متى أفلح خليفة له أم؟".
ثم بعدها جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير حين أراد الهادي خلع أخيه هارون الرشيد من ولاية العهد وتعيين ابنه جعفر مكانه، وكان هارون هو المفضل عند الخيزران. هنا تقول الروايات إن الخيزران استغلت وعكة أصابت ابنها الخليفة ودست عليه بعض الجواري وأمرتهن بخنقه، فجلسن على وجهه حتى اختنق ومات وكان في الثالثة والعشرين من عمره. وفي عهد ابنها هارون الرشيد، امتلكت نفوذاً كبيراً لكنها ماتت بعد سنتين من توليه العرش.
الحافظ لدين الله الفاطمي: الخليفة الذي قتل ابنه الوزير
حين بدأت الدولة الفاطمية تتفكك، فقد الخلفاء-الأئمة هيبتهم وسلطتهم مقابل تزايد سطوة الوزراء. ومما زاد الطين بلة أن وقع حادث أخلّ بنظام الحكم، فالخليفة الآمر بأحكام الله مات دون أن يخلف ولداً يرثه، فتولى ابن عمه الحافظ لدين الله الإمامة في مخالفة لقواعد الوراثة الفاطمية القاضية بانتقال الحكم وراثياً من الأب إلى الابن.
ولكي يقوّي الحافظ جبهته في مواجهة وزرائه المتصارعين على السلطة، عيّن ابنه الحسن وزيراً، وابنه الأصغر حيدرة ولياً للعهد. غضب الحسن لتجاوز أبيه إياه بولاية العهد، فتمرد عليه وانحازت له فئة من الجند اسمها "الجيوشية" ضد فئة أخرى انحازت لحيدرة هي "الريحانية". وأنشأ الحسن ميليشيا خاصة به اسمها "صبيان الزرد"، أي لابسي الدروع، وخاض معارك ضد أبيه سقط فيها أكثر من خمسة آلاف قتيل.
وانتهت المعركة بانتصار الحسن على أبيه ما اضطره إلى تعيينه ولياً للعهد. وقام الحسن بقتل كل مَن عارضه، فتجمع عشرة آلاف من الجند والقادة والأمراء الناقمين عليه عند قصر أبيه وهددوه بقتله هو وابنه إذا لم يقتل ابنه بنفسه.
وعندما تأكد الحافظ من جدية التهديد، استدرج ابنه إلى القصر واعتقله، ولم يكن الابن يتوقع ذلك لشدة ثقته بنفسه، ثم استدعى طبيبين وأمرهما أن يسقيا ابنه السم فمات فوراً. ودخل الأمراء ليتأكدوا من موته، فجرحوا أسفل قدميه، ولما لم ينزف الجرح تأكدوا من وفاته.
عبد الله بن المنصور: قتلته خيانته أم الشك في نسبه؟
سنة 990، كانت شمس الحكم الأموي للأندلس توشك على الغروب، وتحوّل الخليفة هشام المؤيد إلى ألعوبة في يد وزيره وحاجبه القوي المنصور محمد بن أبي عامر الذي صار سيد الأندلس والمغرب.
في ذاك العام، وقعت حادثة تؤكد ما اشتهر به المنصور من صرامة وقسوة. فقد تمرد عليه ابنه عبد الله بسبب سخطه من تقريبه ابنه الآخر عبد الملك إليه، هو الذي يرى نفسه أحق من أخيه بالحظوة عند أبيه. وجدير بالذكر أن عبد الله هذا كان ابن جارية أوروبية للمنصور.
بدأ عبد الله مؤامرته بمغادرة العاصمة قرطبة إلى إحدى مدن الثغور وتواصل مع حاكمها وبعض السياسيين الراغبين في إزاحة المنصور عن الحكم. واتفق معهم على إطاحة أبيه مقابل أن يتولى هو الحكم ويوليهم المناصب العليا في الدولة. وبلغ المنصور خبر المؤامرة، فسارع إلى التخلص من المتآمرين، بينما فرّ عبد الله إلى مملكة ليون المعادية وانحاز إلى ملكها الذي كان يجهّز لمعركة ضد الأندلس.
راسل المنصور ملك ليون مهدداً إياه إن لم يسلم الابن المارق، وأرسل رسالة أخرى لاطف فيها عبد الله وأعطاه فيها الأمان. وبالفعل خرج الابن مع رسل أبيه متوجهاً إلى العاصمة، وفي الطريق قام رجال المنصور بتقييده، فنزل عن جواده بهدوء واستقبل مصيره بثبات، وقام صاحب الشرطة المرافق للرسل بقتله.
وقدّم المؤرخ ابن عذاري رواية أخرى عن سبب جفاء المنصور لابنه إذ يذكر حواراً بين المنصور وبعض المقرّبين منه يؤكد أنه كان يشك في أن الجارية أم ولده كانت قد جامعت رجلاً آخر قبل أن تنتقل إلى ملكيته، وأن عبد الله هو نتاج تلك العلاقة.
المعتضد: صاحب بستان الجماجم
في عصر ملوك الطوائف بالأندلس، اعتلى بنو عبّاد الحكم في اشبيلية ومحيطها، وزاحموا باقي الملوك مناطق نفوذهم. كان أقواهم وأكثرهم قسوة ووحشية المعتضد بن عبّاد. وكان معروفاً بأن في قصره بستاناً يفخر به هو بستان الجماجم، حيث كان يقطع رؤوس أعدائه ويستخدمها كأصص للزرع.
أرسل المعتضد ابنه الأكبر إسماعيل لمحاربة حاكمي مدينتي قرمونة وبطليوس. وحين عاد إسماعيل من الحرب أغراه بعض رجاله وعبيده بالانتفاض على أبيه وخلعه وتولي الحكم مكانه، وهو الأمر الذي لاقى ميلاً في نفسه. فحشد رجاله وأسلحته وتحصن بقلعة تدعى "قلعة الورد"، ولكن واليها المطيع للمعتضد قبض على الابن وأرسله إلى أبيه الذي لم يتردد في قتله وقتل كل رجاله.
إبراهيم بن السلطان المؤيد شيخ: متآمر أم ضحية مؤامرة؟
كان السلطان المملوكي المؤيد شيخ قد عيّن ابنه صارم الدين إبراهيم، المعروف رسمياً بـ"المقام الصارمي" أتابكاً للدولة (قائداً عاماً للجيش ومساعداً للسلطان). وكان الأمير الشاب محبوباً من الجند والعوام ورجال الدولة. ولكن، أثناء عودة القائد الشاب من مهمة إخماد بعض التمردات في الشام ومحيطها أصيب بوعكة قاسية أفضت إلى موته.
تقول إحدى الروايات إن وفاته كانت طبيعية. ولكن ثمة روايتين تتهمان الأب بتسميم ابنه. الأولى تقول إن المؤيد بلغه تصاعد شعبية ابنه فخشي انقلابه عليه فكلّف بعض رجاله دس سم الزرنيخ له بشكل منتظم بكميات بسيطة لا تكفي لقتله مرة واحدة بل على مراحل كي لا يشك أحد في سبب وفاته، ثم ندم بعد ذلك فطلب من الأطباء معالجته ولكنهم فشلوا في ذلك. أما الرواية الثانية فهي للمؤرخ ابن إياس الحنفي وتقول إن الابن المزهو بانتصاراته في الشام اجتمع عليه بعض الأمراء وأغروه بالانقلاب على أبيه، ولما عرف المؤيد بذلك أمر فوراً بقتل ابنه بالسم.
مشكلة القتل في الأسر الملكية هي أن معرفة ملابساته وإثباته من أصعب ما يكون، خاصة حين يُستخدم السم للقتل. وقد انزعج بعض المؤرخين من فكرة قتل الأب أو الأم للابن فرفضوا بعض تلك الوقائع لا لشيء إلا لعجزهم عن استيعاب فكرة "المِلك العقيم